فصل: تفسير الآيات (14- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (8- 9):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ذكر ثالثاً المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين، بل صاروا فرقة ثالثة؛ لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى، وفي الباطن الطائفة الثانية، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار. وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً، وهو من النوس، وهو: الحركة، يقال: ناس ينوس: أي تحرّك، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه، واللام الداخلة عليه للجنس، و{من}تبعيضية: أي بعض الناس، و{من} موصوفة: أي ومن الناس ناس يقول. والمراد باليوم الآخر: الوقت الذي لا ينقطع، بل هو دائم أبداً. والخداع في أصل اللغة: الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي، وأنشد:
أبيض اللون رقيقٌ طعمه ** طيبُ الرِّيقِ إذا الرِّيقُ خدعْ

وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس، وغيره. والمراد من مخادعتهم لله: أنهم صنعوا معه صنع المخادعين، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع. وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم. والمراد بالمخادعة من الله: أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء، فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه. والمراد بمخادعة المؤمنين لهم: هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهراً، وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر.
والمراد بقوله تعالى: {وَمَا يخادعون إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك، ومن هذا قول من قال: من خادعته فانخدع لك فقد خدعك.
وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {يخادعون} في الموضعين، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني {يخدعون}. والمراد بمخادعتهم أنفسهم: أنهم يمنونها الأمانيّ الباطلة، وهي كذلك تمنيهم. قال أهل اللغة: شعرت بالشيء فطنت. قال في الكشاف: والشعور علم الشيء علم حس، من الشعار ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى: أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمراد بالأنفس هنا ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس كالروح والدم والقلب.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: والمراد بهذه الآية المنافقون.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله.
وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال: لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}.
وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له: ما النفاق؟ قال: أن يتكلم بالإسلام ولا يعمل به.
وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة، أن قائلاً من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غداً؟ «قال: لا تخادع الله» قال: وكيف نخادع الله؟ قال: «أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله فإن المرائي ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر، ضلّ عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع، وقرأ آيات من القرآن» {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا} [الكهف: 110] الآية، و{إِنَّ المنافقين يخادعون الله} [النساء: 142] الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله: {يخادعون الله والذين ءامَنُوا} قال: هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا أنهم مؤمنون بما أظهروه. وعن قوله: {وَمَا يخادعون إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أنهم ضرّوا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: {يخادعون الله} قال: يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك.

.تفسير الآية رقم (10):

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
المرض: كل ما يخرج به الإنسان عن حدّ الصحة، من علة أو نفاق أو تقصير في أمر، قاله ابن فارس. وقيل: هو الألم، فيكون على هذا مستعاراً للفساد الذي في عقائدهم إما شكاً ونفاقاً، أو جحداً وتكذيباً، وتقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها، مبالغة في تعلق هذا الداء بتلك القلوب، لما كانوا عليه من شدّة الحسد، وفرط العداوة. والمراد بقوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من النعم، ويتكرّر له من منن الله الدنيوية والدينية. ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق. والأليم المؤلم أي: الموجع، و(ما) في قوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} مصدرية أي: بتكذيبهم وهو: قولهم {آمنا بالله وباليوم الآخر} [البقرة: 8] والقراء مجمعون على فتح الراء من قوله: {مرض} إلا ما رواه الأصمعيّ عن أبي عمرو أنه: قرأ بإسكان الراء، وقرأ حمزة وعاصم، والكسائي {يَكْذِبُونَ} بالتخفيف، والباقون بالتشديد.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} قال: شكّ {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} قال: شكاً.
وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} قال: النفاق {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: نكال موجع {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} قال: يبدّلون ويحرفون.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثل ما قاله ابن عباس أوّلاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أليم، فهو الموجع.
وأخرج أيضاً عن أبي العالية مثله.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله أيضاً.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: ريبة وشكّ في أمر الله {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} ريبة وشكاً {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} قال: إياكم والكذب فإنه باب النفاق.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: هذا مرض في الدين، وليس مرضاً في الأجساد وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخل في الإسلام.
وروي عن عكرمة وطاوس أن المرض: الرياء.

.تفسير الآيات (11- 12):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}
{إذا} في موضع نصب على الظرف والعامل فيه {قالوا} المذكور بعده. وفيه معنى الشرط. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء يفسد فساداً وفسوداً فهو فاسد وفسيد. والمراد في الآية: لا تفسدوا في الأرض بالنفاق، وموالاة الكفرة، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الزرائع كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع.
و{إنما} من أدوات القصر، كما هو مبين في علم المعاني. والصلاح ضد الفساد. لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو: الفساد، إلى الاتصاف بما هو ضدّ لذلك وهو الصلاح، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم، فردّ الله عليهم ذلك أبلغ ردّ؛ لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده، ولما في إن من التأكيد، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له، وردّهم إلى صفة الفساد التي هم متصفون بها في الحقيقة ردّاً مؤكداً مبالغاً فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من {إنما}. وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص، ظنوا أن ذلك ينفق على النبي صلى الله عليه وسلم، وينكتم عنه بطلان ما أضمروه، ولم يشعروا بأنه عالم به، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحاً لما استقرّ في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: الفساد هنا هو: الكفر والعمل بالمعصية.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي: إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال: إذا ركبوا معصية فقيل لهم: لا تفعلوا كذا قالوا إنما نحن على الهدى.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان؛ أنه قرأ هذه الآية فقال: لم يجئ أهل هذه الآية بعد. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد انتهى. ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح؛ لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
أي: وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحقّ والصواب، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاءاً واستخفافاً فتسببوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول. وحصر السفاهة وهي: رقة الحلوم وفساد البصائر، وسخافة العقول فيهم، مع كونهم لا يعلمون أنهم كذلك، إما حقيقة أو مجازاً، تنزيلاً لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه، وأنهم متصفون به. ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم؛ لأنه لا يتسافه إلا جاهل، والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف، أي: إيماناً كإيمان الناس.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ الناس} أي: صدّقوا كما صدّق أصحاب محمد أنه نبيّ ورسول، وأن ما أنزل عليه حق، {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} يعنون أصحاب محمد، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء} يقول: الجهال {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} يقول: لا يعقلون.
وروي عن ابن عساكر في تاريخه بسند واهٍ أنه قال: آمنوا كما آمن الناس أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {كَمَا آمَنَ السفهاء} قال: يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله.
وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود: أي: إذا قيل لهم، يعني اليهود {ءامنوا كما آمن الناس} عبد الله بن سلام، وأصحابه {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء}.

.تفسير الآيات (14- 15):

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}
{لَقُواْ} أصله لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف، وحذفت الياء، لالتقاء الساكنين. ومعنى لقيته ولاقيته: استقبلته قريباً. وقرأ محمد بن السميفع اليماني، وأبو حنيفة: {لاقوا} وأصله لاقيوا تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. وخلوت بفلان وإليه: إذا انفردت به. وإنما عدي بإلى، وهو يتعدى بالباء فيقال: خلوت به لا خلوت إليه؛ لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا. والشياطين جمع شيطان على التكسير.
وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان، فجعلها في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة، فعلى الأوّل هو من شطن، أي بعد عن الحق، وعلى الثاني من شطّ، أي: بعد أو شاط: أي بطل، وشاط، أي احترق، وأشاط: إذا هلك قال الشاعر:
وقد يَشِيطُ علىَ أرمَاحِنا البَطَلُ

أي يهلك.
وقال آخر:
وأبْيَضِ ذي تاجٍ أشَاطَت رِمَاحنُا ** لمَعْتَركٍ بين الفوَارِس أقتمَا

أي: أهلكت. وحكي سيبويه أن العرب تقول: تشيطن فلان: إذا فعل أفعال الشياطين. ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
أيما شاطن عصاه عكا ** ه ورماه في السجن والأغلال

وقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} معناه مصاحبوكم في دينكم، وموافقوكم عليه. والهزؤ: السخرية واللعب. قال الراجز:
قد هَزِئَتْ مني أُم طيْسلَه ** قَالَت أرَاهُ مُعْدمَاً لا مَال لَهُ

قال في الكشاف: وأصل الباب الخفة، من الهزء، وهو القتل السريع، وهزأ يهزأ: مات على المكان. عن بعض العرب: مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني. وناقته تهزأ به، أي تسرع وتخفّ. انتهى. وقيل أصله: الانتقام. قال الشاعر:
قد استهزءوا منهم بألفي مدجج ** سراتهم وسط الصحاصح جثم

فأفاد قولهم {إِنَّا مَعَكُمْ} أنهم ثابتون على الكفر، وأفاد قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} ردّهم للإسلام ورفعهم للحق، وكأنه جواب سؤال مقدّر ناشئ من قولهم: {إنا معكم} أي: إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم؟ فقالوا: إنما نحن مستهزءون بهم في تلك الموافقة، ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم، فردّ الله ذلك عليهم بقوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} أي: ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخفّ بهم؛ انتصافاً منهم لعباده المؤمنين، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة.
وقد كانت العرب إذا وضعت لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفاً له في معناه. وورد ذلك في القرآن كثيراً، ومنه {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق، ومنه {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] و{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15 16] {يخادعون الله والذين ءامَنُوا} [البقرة: 9] {يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] {تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ} [المائدة: 116]. وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يملّ حتى تملوا» وإنما قال: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} لأنه يفيد التجدّد وقتاً بعد وقت، وهو: أشدّ عليهم وأنكأ لقلوبهم، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت، المستفاد من الجملة الإسمية، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت، والمتجددة حيناً بعد حين، أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ؛ لأنه يألفه، ويوطن نفسه عليه. والمدّ: الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مدّ في الشر، وأمدّ في الخير، ومنه {وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ} [الإسراء: 6] {وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ} [الطور: 22].
وقال الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته: إذا أعطيته.
وقال الفراء واللحياني: مددت فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مدّ النهر، ومنه {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27] وأمددت فيما كانت زيادته من غيره، ومنه: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة} [آل عمران: 125] والطغيان مجاوزة الحدّ، والغلوّ في الكفر، ومنه {إِنَّا لَمَّا طغى الماء} [الحاقة: 11] أي: تجاوز المقدار الذي قدّرته الخُزَّان. وقوله في فرعون: {إِنَّهُ طغى} [طه: 24، 43] أي: أسرف في الدعوى حيث قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24]. والعمه والعامه: الحائر المتردد، وذهبت إبله لعمهى: إذا لم يدر أين ذهبت، والعمه في القلب كالعمى في العين. قال في الكشاف: العمه مثل العمى، إلا أن العمى في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة انتهى. والمراد: أن الله سبحانه يطيل لهم المدّة ويمهلهم كما قال: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178]. قال ابن جرير {فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالاً يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً.
وقد أخرج الواحدي والثعلبي بسند واه، لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعضهم قالوا: إنا على دينكم {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} وهم إخوانهم قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ} على مثل ما أنتم عليه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} بأصحاب محمد {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} قال: يسخر بهم للنقمة منهم {وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم} قال: في كفرهم {يَعْمَهُونَ} قال: يتردّدون.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأوّل.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود في قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم} قال: رؤسائهم في الكفر.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك قال: {وَإِذَا خَلَوْاْ} أي: مضوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {وَيَمُدُّهُمْ} قال: يملي لهم {فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} قال: في كفرهم يتمادون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد {يمدهم} يزيدهم {فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} قال يلعبون ويتردّدون في الضلالة.
وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجنّ» فقلت: يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال: «نعم».